الرئيسيةاخبار الاصلد.بطرس دلة …. ،،على شرفة الذكرى ،، للشاعرة نسرين حسين فراج
اخبار الاصل

د.بطرس دلة …. ،،على شرفة الذكرى ،، للشاعرة نسرين حسين فراج

 

على شُرفة الذّكرى

للشّاعرة نسرين حسين- فرّاج

الرّامة

 

 

بقلم : د. بطرس دلّة

هذا الدّيوان الـمنمنم هو أول إصدار لهذه الشّاعرة الواعدة، والذي فيه تتجلى موهبتها الشّعريّة في مجموعة من القصائد القصيرة المنمنمة، والتي تكشف لنا فيها عن مكنونات قلبها الدّافئ بكلمات أشبه ما تكون بنزف الرّوح حبرًا على ورق، أو قُل هي مناجاة بضمير المتكلّمة لفتى الأحلام، فيها الكثير من الرّقة والجمال، تُهديها إلى كلّ امرأة نزفت روحها ولم ينزف قلمها، ولوالديها وزوجها وابنها وابنتها الغاليين على قلبها، وإلى كلّ قارئ وقارئة خاصّة أولئك الذين يقرأون السطور وما اختفى خلف الكلمات والسّطور.

هذا الإهداء يذكّر بما كان قد قاله محمود درويش:

اجرْحِ القلبَ واسقِ شعركَ منه      فدمُ القلبِ خمرةُ الأقلام

حقًا إنّ كلمات هذا الديوان الصّغير هي نزف لِقلمٍ شامخٍ ونفسٍ فيها الكثير من الكبرياء المحببة، والتي تخاطب شغاف القلوب، مع شيء من المراهقة المحبّبة على النّفوس! فالدّيوان كلّه عبارة عن مجموعة همسات دافئة، نسجَ الحبُّ رحلتَها قصيدة في كتاب، كما تقول في قصيدتها الأولى. فهي تمارس الرّحلة الأخرى وتتعثّر جملتان حول تانك الغيمتين الشّاردتين اللتين لولاهما لما اعتلى عرشَ اللقاء ووهجَ القبلتين همسُ العيون، ولم تتحقق فيما بعد رحلة أخرى إلى الذّكرى.

 

 

الصّمتُ واللّقاء:

يتملكها الصّمت في لقاء من تحب، فتقول إنّ لعشقها سحر الخيال، وعندما تلتقي الشفتان يكون الصّمت أكثر بلاغة. من هنا ومن نبيذ الشّفتين المعتّق سوف تسكب صمتها قصيدة، فيتحوّل الصّمت إلى ثورة على القيود. وفي محاولة منها للتّخلّص من تلك القيود سوف تعزف سيمفونيّة الوجد وتترك له قصيدتها ليغزل من خيوطها ثوبًا للشّمس وعباءة مجد للقمر، وعندها يتحوّل الشّوق ليصبح سفيرًا لروحها، فتصبح كلماتها شعلة صمتٍ في صخب الحبّ.

هكذا تقول في (ص 21):

“لِيكُنْ شَوقي سفيرَ روحي/كلماتي التّائهة/على مُنحدرِ الغياب/شُعلةَ صمتٍ/في صخبِ الحُبّ/روحًا تبحثُ عن روحِها/في متاهاتِ الكبرياء”!

وتعود في قصيدتها “رحلة إلى النّسيان” فتلجأ إلى الصّمت الذي يتملّكها بقولها (ص 52):

“عندما أسافرُ/في/بحرِ عينيْك/يَتمَلَكُني صمتٌ/يحتضنُ/ألفَ سؤال/ترسو/في الحزنِ المكتومِ/حيرتي/بعدما/اغتالَ رحيلُكَ/البسمةَ والأحلام”!

 

وفي قصيدتها “لقاء عند مفترق الزّمان” تعود إلى الصّمت بقولها (ص65):

“مِن نظراتِ الشّمسِ/أخفيْنا عيونَنا/حتّى لا يفضحَنا الـهُيام/ولا تبوحَ بِسِرِّنا/خيوطُها الممتدّةُ على صفحاتِ الأيّام/تحتَ شمسِ الخريفِ/عشقتُكَ بصمتٍ/حُرِّمَ الكلامُ.. وأُسرَت الحروف/وما بقي.. إلّا همسُ العيون”!

أمّا عن اللقاء فتبدع في وصفه كما لو كان نبيذًا معتّقًا، بقولها في قصيدتها “ثورةُ نجمٍ واشتياق” (ص23) حيث تقول:

“مُعَتّقٌ لقاؤُنا/على أعتابِ الشّوق/سرمديٌّ شغفُنا/لعناقٍ طويل/ليلكيٌّ انتظارُنا وأرقُ النّجوم/تَوقٌ.. يُثيرُ اللّيلَ والشّجون/عناقُ العُيونِ طال/سقطتْ نجمةُ الأحلام/ثارتْ على عبثِ الأيّام/تناولتْها أكفُّنا/باركتْ ثورتَـها/اعتذرَ منها الزمان/وأزهرَ اللّقاءُ/فُلًّا وريحان”!

فهل هناك لقاء أجمل من هذا اللقاء؟!

وفي قصيدتها “لم يزهر رحم الورد” (ص27) تقول:

“هامَ اللّيلُ/في عشقِ جنينِ الحُلم/توْقًا/لربيعِ الحُبِّ/غابَ اللّقاءُ/غابَ الحُلْم/ولم يُزهرْ/رحمُ الورد”!

وفي قصيدة “حضور يغمره الغياب” تعود إلى الحديث عن اللقاء (ص58):

“في حضورِكَ الفوضويّ/إثارةٌ للعشقِ/على مدارجِ الوهمِ/ونقشٌ للحُلمِ/على/لافـتاتِ الزمنِ الماضي/ودعوةٌ/لِفراشاتِ الأرض/إلى حديقةٍ مُتخيّــــــــلة/في حضورِكَ الفوضويّ/ترتبكُ مشاعرُ الوَلَه/في حَضرةِ شَغَفِ/اللقاءِ الـمُنتظَــــــــــر/في حضورِكَ الفوضويّ//نكهةُ الغزلِ/ونسيمُ لقاءاتِ الهوى/وهمسُ العيونِ…/في حضورِك الفوضويّ/إشارةٌ/لغيابٍ مُرتقَب”!

وللمرّة الرّابعة تعود للحديث عن اللقاء بقولها (ص64) في قصيدتها “ثورة عشقٍ ومطر”:

“لحضورِكِ ورحيلِكِ/في صَحْوي وهذياني/يثور الشّوق أكثر وأكثر/ولا يُخمِدُهُ اللقاءُ الـمُـؤجَّل/ثوري قاتِلَتي/

ثوري/ففي ثورتِك/عشقٌ مُعَطَّر”!

وللمرة الخامسة في (ص74) في قصيدتها “طقوس الحب” تكرر الحديث عن اللقاء بقولها:

“على ضفافِ اللقاءِ انحدرت/قُبلاتٌ وأشواقٌ/وكَلِمات/لها نكهةُ النّبيذِ الـمُـعتّق/ورائحةُ البَخورِ الـمُنبعِثة/

مِن مَعابِدِ الحُبِّ المـُعطّر”!

هكذا وجدناها في معظم قصائد هذا الديوان تعود من حين لآخر وتكرّر بعض المصطلحات مرّتين وثلاثًا واكثر، فتكتسب هذه المصطلحات جمالاً على جمال، كما يردد المغنون ألحانهم وفي كلّ مرّة يكتسبُ اللّحن المتكرر رونقًا خاصًّا وجمالاً ما بعده جمال.

حوارات الحبّ والغزل:

القسم الأكبر من قصائد هذا الدّيوان يدور على طريقة الحوار بين الشّاعرة ومَن تُحب. فحينًا تلتقي فتى أحلامها وتعاتبه ثمّ تقرّب شفتيها ترتشفُ نبيذ شفتيه، وترتفع في وصف موقفها من الرّجل الذي لا يرى في الـمرأة سوى جسد يُشتهى، بينما تجعل نفسها كمن يبحث عن الحبّ الرّوحاني الكامن في أعماق الرّجل، لدرجة التّجنّي على الرّجل، في قصيدتها “لا تنتظرها” (ص9) تتجنّى على الرّجل فتصفه كمن يبحث في أعماقها عن منفضة الشّهوة والغزل بينما تصف نفسها كمن يبحث في أعماق الرّجل عن روحه وذكريات الحبّ الحقيقي مترفّعة بنفسها عن الشّهوة والغزل!

فإذا كان الجنس حالة طبيعيّة، فإنّ الحاجة إليه متوازية بين الذكر والأنثى، فالمرأة تبحث عن أسباب وطرق إزالة الألم الذي يصيبها عندها لا تجد فتى الأحلام لتروي شهوتها، كذلك الرّجل عندما تعصره آلام الحياة، فإنه يبحث عن راحة البال والهدوء النّفسيّ، عندها يركن إلى صدر المرأة، يستمع إلى نبضات قلبها، ويعود بالذاكرة إلى أيّام كان طفلاً رضيعًا، كما قال أحد الشّعراء مُتغزّلاً:

سأغمر بالورد للشّامخين    على الصّدر أغفو كطفل وليد

وكما قال نزار قبّاني: يا شاعري ألم ألقَ في العشرين من لم يُفطمِ!

في قصيدتها “لقاء عند مفترق الزّمان” تدخل في حوار مع ذاتها، فتصل إلى حدّ الهذيان، فهي إذ تلتقي به يكون اللقاء كمن يشرب القهوة المعطّرة بحبّ الهال. فهي تعشقه بصمت كما مرّ معنا وينتابها الصّمت فلا يبقى لها سوى همس العيون التي تنزف بصمتٍ خوفًا من عقاب الطّقس والتّقاليد والدّين. لذلك فهي تدّعي أنّها تعرفه لكنّها تجهله في آن. تعبده وتنكره في آن واحد. تعشقه وتكرهه تشتهيه وتمقُتُه. تدعوه إلى رحلة في الذّكريات فيصبح حبيبها وعدوّها في آنٍ واحد. لذلك فهي تطلب منه أن يرحل من سطور حياتها إلى اللاّمكان لأنّها ترفض أن يستعبدها الزّمان وأن تسجد للنّسيان!

إذن لديها الكثير من الكبرياء المحببة كما ذكرنا، ولذلك فهي تصل درجة التّماهي مع من تحب، فتبدأ معه “حوارية الحب” وهي إحدى قصائد الدّيوان (ص68):

“قالت: أتُحبُّني أنت؟

قال: نعم! أعشقكِ أنا!

قالت: أمجنونٌ أنت؟

هل تعرف مَن أنا؟

قال: مجنونٌ أنا منذ عرفتك!

قالت: أتعرفُني جيّدًا؟

قال: عِطرُ زهرِك مشهورٌ

وعسلُ خدّيْكِ مشهودٌ

وخمرُ فمِكِ مطلوبٌ

والسّكْرُ في عينيكِ مأمولٌ

قالت: أنا لا أعرفُكَ!

قال: أنا  مقتولُكِ في العشقِ

قالت: إذن عشقُكَ مقبولٌ مقبول!”

هكذا تنتهي هذه الحواريّة بالقبول بالرّغم من الكبرياء المارّ ذكرها، ولكنّها تبدو كنوع من الهذيان! فأيّ حبّ هذا؟! إنّه حبٌّ لدرجة الهذيان وذلك لما فيه من تناقضات كما بيّنّا!

المستحيلات:

تَحدثنا عن بعض المتناقضات التي تؤدّي إلى لحبّ. والآن سنتحدّث عن بعض المستحيلات، التي تصل فيها شاعرتنا إلى الحُبّ أيضًا!

ففي قصيدتها “نوّر اللّوز في أيلول” (ص10) نجد الكثير من المستحيلات، منها أولاً ادّعاؤها بأنّ اللّوز نوّر في أيلول ونحن نعرف أنّ اللّوز قد ينوّر في شهر شباط وآذار، ولكنّه لا ينوّر في أيلول لأنّ ذلك مستحيل. ثمّ تضيف إنّ الشّمسَ تشرق من الغربِ وابتسمت أزهار الياسمين. هكذا إذن طالما تكون هذه الأمور مستحيلة كذلك فإنّ الحبّ لديها مستحيل، فلا يأتي إلاّ ثائرًا متمرّدًا على حرمة الوصل في ليل العاشقين.

وتضيف في القصيدة التالية “رقصة على إيقاع الحُبّ” (ص11)، قائلة:

“راقِصيني/على إيقاعِ الحُبّ/واغزلي/مِن ورقِ الشّجر/فستانَ عشقٍ أخضر/اُتْرُكيـني/عاشقًا/هائمًا/تائهًا/

غارقًا/في عسلِ عينيْكِ/أَمتصُّ رحيقَهما/حتّى آخِرِ رمقٍ/في العُمْر”!

فنلاحظ أنّها تتحدّث عن إيقاع الحب! فما هو هذا الإيقاع؟ وكيف يكون؟! إنّها استعارة رائعة! ولكنّها غير موجودة لأنّ الحبّ ليس له إيقاع! إذن يكون الإيقاع للكلمة الحلوة، كقول نزار قبّاني:

“وصاحبتي إذا ضحكت

يسيلُ اللّيلُ موسيقى

فيا ذات الفمِ الذّهبيّ

رشّي اللّيلَ…موسيقى”!

وهنا استعارة رائعة، فاللّيل لا يسيل، والموسيقى تُعزف فنسمعها ولكن كيف نرشُّها! إنّها تعابير جميلة ورائعة. والحُبّ يغرق ويتيه في عسل عينيها، حيث يمتصُّ رحيقهما حتّى آخر رمق في العمرِ!

هذه اللّغة الفنيّة هي ما تصبغ هذا الدّيوان فتسبغ عليه ثوبًا من الجمال الذي ما بعده جمال!

الانتصار للمرأة وللإنسانيّة:

من يقرأ قصائد هذا الدّيوان سيعتقد لأوّل وهلة أنّه ديوان الحب! ولكن نظرة متمعّنة في مضامين القصائد سوف تكشف لنا أننا إزاء شاعرة حسّاسة حتّى الثّمالة في محبّتها للإنسانية وفي دفاعها عن المرأة المغتصَبَة، وفي لوعتها على الاطفال الأبرياء المشرّدين، والذين اغتُصبت طفولتهم بسبب الحروب. هكذا في قصيدتها “سأحبّك أكثر” (ص25)، لنقرا ما ورد فيها:

” وهجُ الحُبِّ يَكبُرُ ويَكبُر/سأُحِبُّ أطفالَ العالمِ الـمُشرّدين/على أرصفةِ الاغتصابِ/وسُخريةِ الأقدار/سأُحبُّ كلَّ امرأةٍ وفتاةٍ/هُتِكَت أنوثتُها/على مِقصلةِ الزّمنِ الغادر/سأُحبُّ مَن خَذَلَهُ الضّميرُ الإنسانيّ/وغابَ مِن ليْلِهِ سلامُ القلوب/وافتقدَ نهارُهُ أمْنَ الدّروب/سأُحِبُّ مَن أحبَّ السّلام/هذا العام وكلَّ عام”!

وفي قصيدتها “فسيفساء وياسمين في ثورة الحنين” (ص29) لا تنسى شاعرتنا ما يحدث في سوريا من اغتصاب الحريّات، ومن مجازر الجلّادين وقتل الأبرياء من النساء والشيوخ والأطفال في قولها:

“أشلاءُ إنسانٍ أنتَ/في سوريا/أشلاءُ بَشَرٍ هناك/على/أرصفةِ المدينة/تتضرّعُ/لِربِّ الأرضِ والسّماءِ/طفلةٌ يتيمة/تبكي/دماءَ شهدائِها/دمشقُ الحزينة/يَعتذرُ الياسمينُ/عن عطورِه الحائرة/رثَتْ فسيفساءُ الشّام/أمَّها/أشلاءَ وطن/باتت شامُكِ/يا أحلامَ الطفولة/انتفضَ التّرابُ/وعادتْ أرواحُ الشّهداءِ/نفضَتْ عنها ذُلَّ الهزيمةِ/شوارعُ المدينة/يا الله../بعثُكَ خيرٌ وسلام/أملُ اليتيمةِ واليتيم/وطفلِ المدينة/يَبحثُ فيكَ/عن هُويّتِهِ/بعدَما/اعتصرَ الذلُّ فيهِ/هُويّةَ الطفولةِ/وهُويّةَ المدينة”!

إنّ حساسيّة شاعرتنا وتأثّرها بما يدور حولنا من أحداث كان يجب أن تتركَ أثرها في هذا الديوان ولو بقصيدة واحدة أو أكثر. فهي في هذا المجال لا تقلّ كتابتها ولغتها الفنيّة روعة عن كتابتها في مواضيع الحُبّ والعشقِ والجمال!

في نهاية الدّيوان وجدت قصيدة شذرات (ص76-77)، والتي رأيت فيها أجمل ما في قصائد هذا الدّيوان. ومع أنّ معظم القصائد جميلة، وقد اخترنا منها ما اخترناه، إلاّ أنّ ذلك لا يكفي للحصول على الانطباع الحقيقيّ عن الدّيوان، لأنّه من أجل ذلك على القارئ أن يطالع جميع قصائد هذا الدّيوان، وأنا أَعِدُهُ بأنّه سوف يجد متعة ما بعدها متعة في كلّ قصيدة وفي كلّ شطر.

وإلى شاعرتنا الواعدة أقول: لكِ الحياة أيّتها الصّديقة!

                                                                                           بقلم

    د. بطرس دلّه

كفر ياسيف

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *